الأدب الإسلامي

 

 

عمر بن الخطاب رضي الله عنه

(12)

 

بقلم : أديب العربية الكبير معالي  الدكتور عبد العزيز عبد اللّه الخويطر

الرياض ، المملكة العربية السعودية

 

 

 

 

وهناك قصة له مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وعن عمر تُري اختلاف نظرة عبد الرحمن، وكيف أن عبد الرحمن وهو الناجح في تجارته، العارف بوظائف المال، وتحركه وسكونه، نظر إلى أموال بيت المال غير نظرة عمر، وقد وضع عمر حجته في إنفاق بيت مال المسلمين على المسلمين أولاً فأول، ولا يدخر شيئاً في بيت المال تحسباً للطوارئ، اعتمادًا منه على الله، وتوكلاً على إمداده للمسلمين بالرزق تالياً مثلما أمدهم أولاً، فعمر انطلق من ثقته بالله، فرأى ما رأى، ولعل في رأيه عنصر الازدهار في المجتمع إذا دار الدرهم فيه، وتحرك الدينار بين الناس، وأخذ كل إنسان حقه منه فترة من الزمن، واستمر يخرج من يد إلى يد، بدلاً من أن يكون في أيدي الناس قليلاً، والمحبوس منه في بيت المال لا يستفاد منه كثير.

     وقد ذهب عمر بذهنه بعيدًا، لاقتناعه بفكرته؛ لأنه ربطها بالثقة بالله، وبقاء الأمل فيما عنده، فأرجع فكرة عبد الرحمن إلى وحي من الشيطان لقّنه له، و وسوسته هتف بها إليه، ثم أردف رأيه الذي لم يكن نتيجة فكرة ضحلة، أو تفكير سطحي، بآية قرآنية، تسند قوله، وتعضد جانبه، وتنير رأيه، ورأى أن المال فتنة إذا ادخر، وترك عمر لمن يأتي بعده أن يقع فيها إن لم ير رأيه. قال عمر رأيه في القصة الآتية:

     «قال سلمة بن سعيد:

     أُتٍيَ عمر بن الخطاب بمال، فقام إليه عبد الرحمن ابن عوف، فقال: يا أمير المؤمنين، لو حبست من هذا المال في بيت المال لنائبة تكون، أو أمر يحدث. فقال:

     كلمة ما عرضها، ولقنها، إلا شيطان، لقَّاني الله حجتها، ووقاني فتنتها؛ أعصي الله تعالى لخوف القابل؟! أُعِدُّ لهم تقوى الله، قال الله تعالى:

     ﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ(1).

     وليكونن المال فتنة على من يكون بعدي»(2).

     كما نرى من النص، لقد اعتبر عمر رضي الله عنه الادخار في مال المسلمين لهذا السبب عصياناً لله!

     ونظرته لمال المسلمين، وحفظه له، وطريقة إنفاقه في حقه، والابتعاد عن الأخذ منه للمصالح الخاصة، تتبين في خطبته الآتية، وقد قال رأيه فيها على رؤوس الأشهاد، وكأنه يقول: هذه خطتي، فإن رأيتموني حِدتُ عنها فحاسبوني، تعينوني بهذا على نفسي:

     «قال عمر على المنبر:

     إقرؤا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، إنه لن يبلغ من حقِّ ذي حق أن يطاع في معصية الله؛ ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، تقرُّمَ البهمة الأعرابية، القضم لا الخضم»(3).

     لقد بدأ الخطبة بأساس الدين الإسلامي القرآن، وكأنه يقول إنما أخاطبكم، لأنكم أتباعه، والمؤمنون به، ثم يذكرهم بحقه عليهم، وهو قراءته، حتى يكون علامة عليهم، ونعم العلامة؛ والعمل به، ليكمل إيمانهم، ويصبحوا من أهل القرآن، وهذا فوز عظيم، وعندما أشار إلى ما قد يأخذه من مال المسلمين، مقابل عمله لهم، أكد أنه لن يأخذ شيئًا إلا عند الحاجة، وحدد هذه الحاجة بما أورده الله عن ما يأخذه ولي اليتيم عند الحاجة، ولقد أراد عمر أن يحدد ما سيأخذ بالمعروف عند الحاجة بأنه قضم الصَّخْلة الصغيرة، لا خضم النعجة الشرهة.

     ولعمر نظرة إلى العمل، وبذل الجهد لكسب الرزق؛ لأنه لا يطيق أن يرى طاقة معطلة، فالمسلم لمجتمعه عليه حق، يجب أن يؤديه عن نفسه، ومتى قام كل فرد من المجتمع بما عليه، فإن المجتمع ينهض، أما إذا تكاسل بعض أعضائه، وتهاونوا في حق المجتمع عليهم، فإن المجتمع يصبح مهيض الجناح، لا يقف على قدميه، ولا يسير كما يراد له، ولعمر رأي فيمن لا يعمل:

     «قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :

     إني لأرى الرجل، فيعجبني، فأقول: هل له حرفة؟

     فإن قالوا: لا، سقط من عيني»(4).

     هذا رأي عمر، وهو لا يعدو أن يكون قولاً مضيئاً، ولكن عمر لا يقف عند القول، بل يطبق ما يقول، وله فعل مضيئ مثل قوله، يتبين في القصة الآتية:

     «قال جابر:

     دخل رجل المسجد، ومعه سهم، فقال:

     من يعين في سبيل الله؟

     فقام إليه عمر، فلببه، قال:

     من يستأجر مني هذا؟

     قال رجل من الأنصار: أنا.

     فأجَّره منه سنة، وقال:

     أنفق عليه من أجره، وما فضل فوافني به في رأس السنة.

     فلما كان رأس الحول جاء بعشرين درهماً.

     فقال عمر: استعن بهذا، ولا تسأل الناس شيئاً»(5).

     ويبدو أن عمر يجفل من البطالة، حتى للكهل الكبير، ولا يقبل أن يفكر أنه يحتاج إلى أحد يخدمه عن عجز في يوم من الأيام، وقد ورد في إحدى المرات على رجل دعا له بأن يخدمه بنوه، فقال:

     «قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه :

     خدمك بنوك.

     فقال: بل أغناني الله عنهم»(6).

     ويفزع بمجرد أن يسمع شيئاً يدل على البطالة والكسل، ويصفه بالوصف اللائق به، ولا يماري، ولا يحابي، ولا يداجي، بل يلقي بالكلمة كالصخرة المنحدرة؛ لأن صراحته لهم ليست أقسى من خطئهم في حق أنفسهم، ومجتمعهم. والقصة هكذا:

     «لقي عمر رضي الله عنه ناساً من أهل اليمن، فقال: ما أنتم؟

     قالوا: متوكلون.

     قال: كذبتم، بل أنتم متأكلون؛ ألا أخبركم بالمتوكل؟

     رجل ألقى حبة في بطن الأرض، توكلاً على الله»(7).

     والنصوص التي مرت بنا تبين تميز عمر، وقد اجتمعت من هنا وهناك، ولكن هناك نصوص صريحة في فضله، تأتي من أناس شهادتهم شريفة، وقولهم حق، ورأيهم صائب، وهاهي عائشة رضي الله عنها تقول:

     «من رأى عمر بن الخطاب عرف أنه خلق غناء للإسلام: كان والله أحوزيًّا (الحسن السياقة للأمور)، قد أعد للأمور أقرانها»(8).

     وقد جاء مدحه مقترناً بأبي بكر رضي الله عنه كما في النص التالي:

     «قال عبد المهيمن بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده:

     كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حليتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزين بهما في يوم عيد، أو وفد إن قدم عليه: أبو بكر عن يمينه، وعمر عن شماله رضي الله عنهما»(9).

     وهناك نص آخر يماثل هذا، مع فكرة ذكية أضيفت:

     «قال أبو حازم: قيل لعلي بن الحسين رضي الله عنهما :

     كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

     قال: كمنزلتهما اليوم، وهما ضجيعاه»(10).

     ويعرف أهل الفضل فضل عمر، ويروونه، ويبرزون في قصصهم ما جعلهم يقتنعون بأنه فريد في حكمه، وهنا قصة يمدح فيها رجل فضل عمر، ويبين في القصة الأساس الذي بنى عليه حكمه، ومحور الأمر أن عمر عادل، ويحكم على نفسه وأهله بالحق قبل أن يحكم عل الناس:

     «قال فضيل:

     ما ينبغي لك أن تتكلم بفمك كله، تدري من كان يتكلم بفمه كله؟ عمر بن الخطاب: كان يطعم الطيب، ويأكل الغليظ، ويكسوهم اللين، ويلبس الخشن، ويعطيهم الحق، ويزيدهم، وأعطى رجلاً عطاءه أربعة آلاف درهم، وزاده ألفاً فقيل له: ألا تزيد ابنك كما تزيد هذا؟

     فقال: إن هذا ثبت أبوه يوم أحد، ولم يثبت أبو هذا»(11).

     والمال وتقسيمه فيه حرج على عمر، ولهذا فهو حريص عل الدقة في إنفاقه؛ لنه مال المسلمين، وهو واقف بالمرصاد للشُّبه التي تأتي موهمة أن له حقًّا فيه غير ما يعرفه، وكأنه يتوقع دائماً أن إبليس متربص له عند الأموال وتقسيمها، لا تغمض له عين، ولا يطرف جفن، والقصة التالية تُري تنبهه للمداخل التي يمكن أن تأتي منها ريح الحرام:

     «قال الحسن:

     أتى عمر رضي الله عنه مال كثير، فأتته حفصه، فقالت:

     يا أمير المؤمنين، حق أقربيك، فقد أوصى الله بالأقربين.

     فقال: يا حفصة، إنما حق أقربائي في مالي، فأما مال المسلمين فلا، يا حفصة نصحت قومك، وغشتت أباك.

     فقامت تجر ذيلها»(12).

*  *  *

الهوامش:

سورة الطلاق، الآيتان: 2، 3.

البصائر: 8/110.

البصائر: 6/140.

ربيع الأبرار: 2/548.

ربيع الأبرار: 2/626.

ربيع الأبرار: 3/521.

ربيع الأبرار: 3/591.

عيون الأخبار: 2/337.

البصائر: 4/19.

البصائر: 4/20.

ربيع الأبرار: 3/73.

ربيع الأبرار: 3/80.

*  *  *

 

بيان الملكية

       اسم المطبوعـة         :      الـداعـي

      الدورة النشرية       :      شهريـة

      الطابع والناشر       :      (مولانا) أبوالقاسم النعماني

      الجنسيـــة              :      هنــدي

      العنـــوان               :      دارالعلوم ، ديوبند ، يوبي

      رئيس التحرير        :      نور عالم خليل الأميني

      مالك المطبوعة       :      دارالعلوم ديوبند

      أصادق على أن التفاصيل المـذكـورة أعلاه صحيحـة

      حسب علمي واطلاعي            ( توقيع )

                                    (مولانا) أبوالقاسم النعماني

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، جمادى الاولى 1434 هـ = مارس ، أبريل 2013م ، العدد : 5 ، السنة : 37